اليوم هو اليوم الأول من إجازة الربيع، ودرجات الحرارة تعكس بوضوح أن هذه الإجازة ليس لها من اسمها نصيب. كان الشتاء قاسياً هذه السنة، حتى بشهادة سكان الولاية أنفسهم .. فما أن نلتقط أنفاسنا من عاصفة ثلجية حتى تغرقنا أخرى. تغيرت مشاعري تجاه الثلج، أصبحت أكن له العداء، فمع كل عاصفة تتوقف الحياة وتصبح حبيس منزلك لا تستطيع الخروج، تطل ببصرك من النافذة فلا تجد إلا بياضاً .. يجلب الكئابة.. قد غطى كل ملامح الحياة خارج نافذتك الصغيرة.
لابأس، فحسب توقعات الطقس فإن الأجواء تكون ستكون معتدلة هذا الأسبوع. هذه الأيام القلائل هي فرصة للهروب من جو الدراسة، لذا أخبرت صديقي عبدالعزيز الذي يدرس معي في نفس الجامعة برغبتي في السفر، أبدى حماسه لذلك، ولكن كلانا لا يملك أدنى فكرة أو خطة لوجهتنا. لا بد أن تكون المدينة قريبة، فالإجازة ما هي إلا أيام قلائل. لحسن الحظ، تلقيت رسالة من صديقي محمد الذي يدرس في غرب الولاية عن رغبته في أن نجتمع في هذه الإجازة. محمد صديق رائع تعرفت عليه أثناء وجودي في ولاية تكساس لدراسة اللغة. سألته إن كان يعرف أي مكان قريب في الولاية يكون مناسباً لزيارة سريعة. فأخبرني عن منطقة قد سمع عنها من زملائه في الجامعة تقع في منتصف الطريق بيننا تسمى الجسر الطبيعي. و بعد بحث سريع في الإنترنت أعجبني المكان وقررنا أن نلتقي هناك بعد عدة أيام.
استقيظنا مبكرا في الصباح ، يبدو الجو رائعاً ودرجة الحرارة مرتفعة على غير العادة. تناولنا فطورنا سريعا وانطلقنا إلى وجهتنا .. منتزه الجسر الطبيعي. كان الطريق خالياً أثناء قيادتنا على الطريق الرئيسي آي 66 باتجاه الغرب ، على عكس الاتجاه الآخر المؤدي إلى العاصمة واشنطن والذي كان مزدحما تماماً لأنها كانت ساعة الذروة للموظفين المتجهين لأعمالهم. حيث تعتبر الطرق المحيطة بالعاصمة الأمريكية من أكثر المناطق ازدحاماً على مستوى الولايات المتحدة.
عد مسيرة ثلاث ساعات تقريبا وصلنا إلى وجهتنا بمساعدة جهاز الملاحة. الساعة تشير إلى الواحدة بعد الظهر. يبدو المكان خاليا إلا من بضع سيارات هنا وهناك مقابل الفندق الرئيسي والوحيد في المنطقة. بعد دقائق وصل صديقي محمد وتوجهنا مباشرة إلى متجر الهدايا حيث يمكننا الحصول على تذكرة الدخول للمنتزه. يبدو المتجر واسعا من الداخل مليئاً بأنواع السلع من قمصان و أكواب وتذكارات قد كتب عليها اسم المنتزه كنوع من الذكرى. كالعادة لا أحرص على الشراء من هذه المحلات فغالباً ما تكون أسعارهم مبالغٌ فيها بشكل كبير جداً. من الأشياء اللتي شدتني داخل المتجر الزي العسكري لطرفي الحرب الأهلية الأمريكية، جيش الولايات المتحدة وجيش الولايات الكونفدرالية الأمريكية. حرب دامية راح ضحيتها آلاف الجنود من الطرفين. في زاوية أخرى من المتجر يوجد أقواس وأسهم خشبية كتعبير عن السلاح الذي كانت تستخدمه قبائل السكان الأصليين سابقا. توجهنا إلى كشك بيع التذاكر، والذي كان خلفه سيدة كبير في السن قابلتنا بابتسامة جميلة. سألها صديقي محمد عن أسعار التذاكر لمنطقة الجسر الطبيعي وللكهوف أيضا، فأخبرته أن الكهوف مغلقة حاليا ولن يتم افتتاحها قبل خمسة أيام على الأقل! أصبنا بالإحباط نوعا ما، فزيارة الكهوف كانت أحد أسباب حضورنا لهذا المكان .. أخبرتنا السيدة أننا الآن في خارج الموسم فلا يزال الجو بارداً ولم يبدأ الربيع بعد ، وهذا يفسر قلة السياح في هذا الوقت. كان سعر التذكرة خمسة عشر دولار، مع وجود خصم للطلاب يخفض سعرها إلى تسعة دولارات فقط. من الأشياء الرائعة هنا في الولايات المتحدة أن الطلاب دائما ما يحظون بخصم أو تخفيض في أغلب المتاجر مثل المطاعم أو المتنزهات أو حتى متاجر الكتب. المشكلة أن كثير من الأماكن لا يخبرونك عن تخفيض الطالب لسبب لا أفهمه لذا يجب عليك الحرص والسؤال عن خصم الطلاب في أي مكان تزوره. بعدما أخذنا تذاكرنا وتوجهنا لبوابة الدخول ..فوجئنا بأنه لا يوجد هناك أي شخص ليستلم منك التذكرة، لا بد أن قلة الموظفين هي السبب. تابعنا الطريق إلى الجسر الطبيعي و هو يتكون من مئة وسبعة وثلاثين درجة تنزل بك في طريق جميل محفوف بالأشجار وبشلالات الماء الصغيرة المنتشرة هنا وهناك. صوت خرير الماء يطربني جدا وهو أحد أسباب حبي للطبيعة و إدماني لزيارتها. في منتصف الطريق يقع المطعم الذي يخدم المنتزه ، لكن يبدو من الغبار المتراكم على الطاولات مرور فترة طويلة على المطعم دون أن يخدم زبونا واحداً. مقابل المطعم يقع ما يسمى بالجسر الطبيعي. قوس صخري عجيب تكون بشكل طبيعي.. يبلغ ارتفاعه أكثر من 65 متراً. عندما تقف أسفل الجسر تشعر بعظمة الخالق ولا يسعك إلا أن تقول سبحان الله. يقال أن هذا المكان كان يعتبر أحد الأماكن المقدسة لإحدى قبائل السكان الأصليين لأنهم انتصروا فيه على قبيلة أخرى. في الجدار الصخري أسفل الجسر تستطيع رؤية الحرفين ( جي , دبليو ) حيث يحكى أن جورج واشنطن -أول رئيس أمريكي- قام بنحتها عندما زار المنطقة في عام 1750 م. التقطنا بعض الصور ثم أكملنا الطريق ، فمررنا بإحدى القرى للسكان الأصليين والتي بنيت كمعرض للسياح. الطريق داخل المنتزه يمتد قرابة الميل بجانب أحد الينابيع الصغيرة و المكان بشكل عام جميل ويستحق الزيارة.
بعد أن انتهينا من رحلتنا القصيرة لمنطقة الجسر الطبيعي، اقترح أحد الأصدقاء زيارة مدينة لكنسغتون، و هي مدينة تاريخية صغيرة لا تبعد أكثر من عشرة أميال من مكان وجودنا. أعجبتني الفكرة، وانطلقنا إلى هناك .. وصلنا في أقل من عشرين دقيقة. راقت لي المدينة من اللحظات الأولى اللتي دخلنا فيها . تبعنا صديقي محمد – والذي كان قد زار المدينة سابقا – إلى مركز الزوار. بالإضافة إلى المواقف المجانية .. حصلنا على عدة منشورات عن المدينة والأماكن اللتي تستحق الزيارة فيها. ثم بدأنا بالمشي في طرقات المدينة الضيقة اللتي تنحدر بشكل شديد، مررنا في طريقنا على العديد من المتاجر اللتي يبدو من مظهرها أنها ملك لتجار محليين حيث يغلب عليها البساطة. و رأينا عدة متاجر كانت تعرض سلع محلية كتذكارات تحمل اسم المدينة. أثناء سيرنا بدأت ألحظ شيئا غريبا في هذه المدينة .. قررت أن احتفظ باستنتاجي العجيب هذا في رأسي حتى نتقدم قليلا.. وصلنا إلى حرم جامعة واشنطن و لي، وهي جامعة خاصة أنشأت في بدايات القرن الثامن عشر للميلاد. أعجبني جدا الطراز المعماري للجامعة والمسطحات الخضراء الممتدة بشكل واسع بين المباني. ثم خرجنا من الحرم الجامعي بحثا عن أحد المطاعم لتناول وجبة الغداء. في الطريق توقفت لفترة قصيرة في أحد التقاطعات وبعد تأمل لعدة دقائق .. قررت مشاركة أصدقائي استغرابي مما توصلت إليه : يا أصدقاء.. منذ دخولنا للمدينة هل شاهدتم أي عرق آخر غير العرق الأبيض ؟ جميعا السكان هنا من البيض. في جميع المدن اللي زرتها أو عشت فيها هنا في الولايات المتحدة كان هناك تنوع في أعراق سكان المدينة ما بين البيض الأوربيين والآسيويين والسود واللاتينيين. وجود ثلاثة أشخاص بملامح عربية سيكون محل استغراب في هذه المدينة الصغيرة اللتي لا يزيد عدد سكانها عن ستة آلاف فقط يمثل البيض فيها أكثر من ثمانين بالمئة! كنت قد توقعت نظرات استغراب تحمل شيئا من العنصرية ولكني لم أجدها ، بل شاهدت تعاملا رائعا من أهل هذه المدينة الذين يبدو أنهم قد اعتادوا على السياح من مختلف المناطق.
وقعت أعيننا على أحد المطاعم في منتصف المدينة. دخلنا المطعم بعد أن ألقينا نظرة سريعة على قائمة أصناف الطعام التي علقت على باب المحل من الخارج. استقبلتنا فتاة شقراء بابتسامة مصطنعة و قادتنا بلطف إلى مكان جلوسنا بقرب النافذة الزجاجية المطلة على الشارع الرئيسي للمدينة. وكما هي العادة، بدأت بسؤالنا إن كنا نرغب بشرب أي شيء .. قمت بطلب كولا دايت.. فرغم كوني مهتم بصحتي نوعاً ما إلا أني لم أبلغ المرحلة اللتي وصل إليها صديقي عبدالعزيز الذي اكتفى بطلب كوب من الماء، فقد توقف عن استهلاك المشروبات الغازية منذ أشهر طويلة. بعد عدة دقائق أمضيناها في مناقشة مواضيع مختلفة بين الدراسة و الحياة هنا في أمريكا عادت إلينا النادلة لتسأل إن كنا جاهزين بعد للطلب. للأسف أكره المغامرة في تجربة الأكلات الجديدة ودائما ما أعتمد على أصدقائي في توصياتهم لتجربة أي صنف جديد، لذا قمت باختيار طلبي المعتاد دائما الفريدو فيتوتشيني بالدجاج والذي اتضح فيما بعد أنه خيار سئ في هذا المطعم. و قبل أن تترك الطاولة سألتنا النادلة من أي دولة نحن؟ أجبتها أننا من السعودية .. رغم الابتسامة المرسومة على وجهها إلا أنك تستطيع أن تعرف أن الصورة اللتي تحملها تلك الفتاة في ذهنها عن وطني ليست بذلك الجمال.. لأسف! تبادلنا محادثة سريعة وأتمنى أن نكون تركنا انطباع جيد يغير ولو شيئاً بسيطا من تلك الصورة التي تحملها عن بلدي
بعد أنهينا غداءنا توجهنا للمحاسب الذي كان فيما يبدو صاحب المحل، رجل كبير في السن ملامحه الشرقية تدل أنه ليس من أهل البلد. تغيرت ملامح الرجل وبدا عليه الغضب عندما سأله أحد الأصدقاء إن كان من تركيا .. أجاب بنبرة حادة .. أنا من اليونان! لا تحتاج مهارات تحليل خارقة لتعرف أن العلاقة بين الجيران الأتراك واليونانيين ليست جيدة أبداً! شكرنا الرجل وقمنا بإضافة مبلغ البقشيش على الفاتورة كما تجري هنا العادة في أمريكا.. حيث تقدم مبلغ بين 15% إلى 20% حسب مستوى الخدمة. قبل أن نغادر المطعم قدم لنا الرجل بطاقات قد رسمت عليه صلعته اللامعة .. شكرنا الرجل واتجهنا للخارج.